من أوَّل يومٍ في الدَّعوة الإسلاميَّة المبارَكة والرسولُ صلى الله عليه وسلم يعلَم أنَّه سيَخرُج من بلده مُهاجِرًا؛ ففي حديثه مع ورقة بن نَوفَل عندما اصطَحبَتْه زوجُه خديجة رضِي الله عنها إلى ابن عمِّها، عندها قال له ورقة: هذا النامُوسُ الذي نزَّل الله على موسى، يا ليتَنِي فيها جَذَعًا، ليتَنِي أكون حيًّا إذ يُخرِجك قومُك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوَمُخرِجِيَّ هم؟!»، قال: نعم، لم يأتِ رجلٌ قطُّ بمثْل ما جئتَ به إلا عُودِي، وإنْ يُدرِكْني يومُك أنصُرْكَ نصرًا مُؤزَّرًا، ثم لم ينشَبْ ورقةُ أنْ تُوفِّي[1].
ومن ساعَتِها عَلِمَ النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الطريق غير ممهَّد، وليس مَفرُوشًا بالورود، بل محفوفٌ بالمخاطر والمهالك، وأنَّه مُخرَجٌ من مكَّة حَتمًا لا مَحالة.
وقد سبَقتْ تلك الهجرة المُبارَكة عدة هِجرَات؛ منها: الهجرة الأولى إلى الحبشة؛ والتي هاجَر فيها عَشْرَةُ رِجال وخمسُ نِسوَة، وكذا الهجرة الثانية إلى الحبشة؛ وقد هاجَر فيها بِضعٌ وثمانون نَفسًا، وكذا الهجرة إلى الطائف؛ وكان فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وحدَه.
أمَّا عن أهمِّ أسباب الهجرة من مكة إلى المدينة المنوَّرة فهي كما يلي:
1- عدم تقبُّل مكَّة للإسلام ابتداءً:
كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم حَرِيصًا أشدَّ الحِرص على هِدايَة قومِه ودخولهم دين التوحيد، فاستَعمَل صلى الله عليه وسلم معهم كلَّ أساليب الرِّفق في الدَّعوة إلى الله عزَّ وجلَّ بشتَّى صُوَرِها، وبالحكمة والموعظة الحسَنَة، وأكبر دليلٍ على ذلك قولُه تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256].
ولكنَّ قريشًا أبَتْ إلاَّ أنْ تُحارِب الله ورسولَه، فبحَثَ النبيُّ عن مكانٍ آخَر يكون أكثر استِعدادًا لقبول دعوته، فكان هذا المكان هو يَثرِب (المدينة المنوَّرة فيما بعدُ).
2- استعداد المدينة المنوَّرة لقبول دعوته صلى الله عليه وسلم:
لَقِيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عند العقَبَة في مَوسِم الحج ستَّة نَفَرٍ من الأنْصار، كلهم من الخَزرَج، فدَعاهُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فكان من صُنْعِ الله لهم أنهم كانوا من جِيران اليهود، فكانوا يَسمَعُونهم يَذكُرون أنَّ الله تعالى يَبعَثُ نبيًّا قد أطَلَّ زمانُه، فقال بعضُهم لبعضٍ: هذا والله الذي تُهدِّدكم به يهود، فلا يَسبِقونا إليه، فآمَنُوا به وبايَعُوه، وقالوا: إنَّا قد تَرَكنا قومَنا بيننا وبينهم حروب، فننصَرِف ونَدعُوهم إلى ما دعَوْتَنا إليه؛ فعسى الله أنْ يجمَعَهُم بك، فإن اجتَمعَتْ كلمتُهم عليك واتَّبعوك، فلا أحد أعز منك، وانصَرَفُوا إلى المدينة، فدعوا إلى الإسلام، حتى فشَا فيهم، ولم تبقَ دارٌ من دُورِ الأنصار إلاَّ وفيها ذِكْرٌ من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
حتى إذا كان العام المُقبِل قدم مكَّة من الأنصار اثنا عشر رَجُلًا، منهم خمسةٌ من الستَّة السابِقين، وكلهم من الأوس والخزرج جميعًا، فبايَع هؤلاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عند العقَبَة بَيْعَةَ النِّساء[2].
فلمَّا انصَرَفُوا بعَث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم ابن أمِّ مَكتُوم، ومُصعَب بن عُمَير يُعلِّم مَن أسلَمَ منهم القُرآنَ وشَرائعَ الإسلام، ويَدعُو مَن لم يُسلِم إلى الإسلام، فنَزَل مُصعَب بن عُمَير على أسعد بن زُرارَة.
وخرَج إلى المَوسِم جماعةٌ كبيرةٌ ممَّن أسلَمَ من الأنصار يُرِيدون لقاءَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في جملة قومٍ كفَّار منهم لم يُسلِموا بعدُ، فوافوا مكَّة، وكان في جُملتِهم البَراء بن مَعرُور، فرأى أنْ يستَقبِل الكَعبة في الصَّلاة، وكانت القِبلَة إلى بيت المَقدِس، فصلَّى كذلك طول طَريقِه، فلمَّا قَدِمَ مكَّة نَدِمَ، فاستَفتَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «قد كُنتَ على قِبلةٍ لو صَبرتَ عليها»، مُنكِرًا لفعله.
فواعَدُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم العقَبةَ من أواسط أيَّام التَّشرِيق، فلَمَّا كانت تلك الليلة دعا كعبُ بن مالكٍ ورجالٌ من بني سلمة عبدَالله بن عَمرو بن حَرام- وكان سيِّدًا فيهم- إلى الإسلام، ولم يكن أسلم، فأسلم تلك الليلة وبايَع. وكان ذلك سِرًّا ممَّن حضَر من كفَّار قومهم، فخرَجُوا في ثُلُثِ الليل الأوَّل مُتَسلِّلين من رِحالهم إلى العقَبَة، فبايَعُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عِندَها على أنْ يمنَعُوه ممَّا يمنَعُون منه أنفُسَهم ونِساءَهم وأبناءَهم، وأنْ يَرحَلَ إليهم هو وأصحابُه[3].
هكذا كانت المدينة أرضًا خصبة للدعوة والدَّولة الإسلاميَّة بما فيها من عَناصِر الدولة الثلاثة: (الشَّعب، السُّلطة، الدَّولة).
3- تعرُّضه صلى الله عليه وسلم لصُنُوفٍ من الإيذاء:
لقد تعرَّض صلى الله عليه وسلم للابتِلاء الشَّديد والمِحَن العَصِيبة؛ فقد آذاه قومُه بكُلِّ أنواع الإيذاء، واستَخدَمُوا معه كلَّ ما استَطاعُوا لإخماد نور وحيِه، والقَضاء على دعوَتِه في مَهدِها، وتمثَّل هذا الإيذاء بنوعَيْه: بالكلام والفعل.
فبالكلام قالوا عنه: ساحر وشاعر ومجنون، ومنه: لَمَّا نزلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، صَعِدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الصَّفا، فجعَل يُنادِي: «يا بني فِهر، يا بني عَدِيٍّ»- لبطون قُرَيش- حتى اجتمَعُوا، فجعَل الرجل إذا لم يستَطِع أنْ يخرُج أرسَلَ رسولًا لينظُرَ ما هو، فجاء أبو لهبٍ وقريش، فقال: «أرأيتَكُم لو أخبرتُكم أنَّ خَيْلًا بالوادي تُرِيد أنْ تُغِيرَ عليكم، أكنتم مُصدِّقيَّ؟»، قالوا: نعم؛ ما جرَّبنا عليك إلاَّ صدقًا، قال: «فإنِّي نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديدٍ»، فقال أبو لهبٍ: تبًّا لك سائِرَ اليوم، ألهذا جمعتَنا؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 1- 2][4].
أمَّا بالفعل: فقد روى البخاري من حديث عُروَة بن الزُّبير، قال: (سألتُ ابنَ عمرو بنِ العاص: أخبِرنِي بأشد شيءٍ صنَعَه المشركون بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: بينا النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي في حِجرِ الكَعبة، إذ أقبلَ عُقبَةُ بن أبي مُعَيط، فوَضَع ثوبَه في عُنُقِه، فخَنقَه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكرٍ حتى أخَذ بمنكبه، ودفَعَه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ...} [غافر: 28] الآية)[5].
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما أيضًا من حديث عمرو بن ميمون: (أنَّ عبدالله بن مسعود حدَّثَه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُصلِّي عند البيت، وأبو جهل وأصحابٌ له جُلُوسٌ، إذ قال بعضهم لبعض: أيُّكم يَجِيء بسَلَى جَزُورِ بني فلان، فيضعه على ظهْر محمدٍ إذا سجَد؟ فانبَعَث أشقى القومِ فجاءَ به، فنظَر حتى سجَد النبيُّ صلى الله عليه وسلم فوضَعَه على ظَهرِه بين كتفَيْه، وأنا أنظُر لا أُغنِي شيئًا، لو كان لي مَنعَة! قال: فجعَلُوا يَضحَكُون ويُحِيل بعضهم على بعض، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم ساجدٌ لا يَرفَعُ رأسَه، حتى جاءَتْه فاطمة، فطرحَتْ عن ظهره، فرفَع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسَه ثم قال: «اللهمَّ عليكَ بقريش» ثلاثَ مرَّات، فشقَّ عليهم إذ دعا عليهم، قال: وكانوا يرَوْن أنَّ الدَّعوة في ذلك البلد مُستَجابة، ثم سَمَّى: «اللهم عليك بأبي جهل، وعليك بعُتبَةَ بن رَبِيعة، وشَيْبَةَ بن رَبِيعةَ، والوَلِيد بن عُتبَة، وأميَّة بن خلف، وعُقبَة بن أبي مُعَيط» وعَدَّ السابع فلم يُحفَظ، قال: فوالذي نفسي بيَدِه، لقد رأيتُ الذين عَدَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صَرعَى، في القَلِيب قَلِيب بدرٍ)[6].
ومن أواخِر المَكِيدات الفعليَّة في مكَّة اتِّفاقُهم على قَتلِه صلى الله عليه وسلم في فِراشِه وهو ما حَكاه أهل السِّيَر؛ حيث اجتَمَع رجالٌ من قريش ذاتَ يومٍ وتشاكَوْا وتشاوَرُوا في أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم وانتَهَى بهم الأمرُ إلى قتْله صلى الله عليه وسلم فاقتَرَح عليهم أشقى القوم أبو جَهل بن هِشام أنْ يَأخُذوا من كلِّ قبيلةٍ شابًّا فتيًّا جليدًا نسيبًا، ثم يعطوا كلَّ شابٍّ منهم سيفًا فيَضرِبوه صلى الله عليه وسلم ضَربةَ رجلٍ واحدٍ، فيتفرَّق دمُه صلى الله عليه وسلم بين القبائل فلا يقدر بنو عبد مَناف على حَربِهم جميعًا، فنَجَّاه الله منهم بمنِّه وكرَمِه[7].
4- النَّكال وإيقاع العَذاب بكُلِّ مَن آمَن به صلى الله عليه وسلم:
عاشَ المسلمون المؤمنون الفَترةَ التي قضَوْها في مكَّة مُعذَّبين مُضطهَدِين، والكافرون لا يَرقُبون فيهم إلًّا ولا ذمَّة، وليس لهم من ظَهْرٍ يَحمِيهم، ولا جَيْشٌ يُدافِع عنهم، ولا مَن يَذُبُّ عن بيضَتِهم، فكان لا بُدَّ من خَلاصٍ لهذا الاضطهاد المستمرِّ، وهذا النَّكال المُفظِع، فكانت الهِجرَة إلى المدينة لإقامة المجتَمَع الآمِن لهؤلاء المؤمنين تُمثِّل لهم ضَرُورةً مُلِحَّةً حتى يَعبُدوا ربَّهم في مَأمَنٍ من الكُفرِ وأهلِه.
فهذه عائلة آل ياسر قد سامَهم الكُفَّار سُوءَ العَذاب من الضَّرب والإهانة وشدَّة التَّعذِيب، حتى إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مرَّ عليهم مرَّةً وهم يُعذَّبون فقال لهم صلى الله عليه وسلم: «صَبرًا آل ياسِر؛ فإنَّ مَوعِدَكم الجنَّة»[8]
بل كانت سميَّة أمُّ عمَّار رضِي الله عنهما أوَّل شهيدةٍ في سبيل الله في الإسلام.
وبلال الذي أُوذِي إيذاءً شديدًا عندما كانوا يكبُّوه رضِي الله عنه على الرَّمضاء في نَهار صيف مكَّة ويضَعُون الحجر على ظَهرِه حتى يَرجِع عن دينه، فلا يزيد إلاَّ أن يقول: أحَدٌ أحَدٌ، حتى مَرَّ به أبو بكرٍ الصِّدِّيق يومًا وهم يصنَعُون به ذلك، وكانت دار أبي بكرٍ في بني جُمَح، فقال لأميَّة: ألاَ تتَّقِي الله في هذا المِسكِين؟ حتى متى؟ قال: أنت أفسَدته فأنقِذه ممَّا تَرَى، قال أبو بكرٍ: أفعَلُ، عندي غلامٌ أسوَدُ أجلَدُ منه وأقوى على دِينِك، أعطيكه به، قال: قد قبلتُ، قال: هو لك، فأعطاه أبو بكرٍ غُلامَه ذلك، وأخَذ بلالًا فأعتَقَه، ثم أعتَقَ معه على الإسلام قبل أنْ يُهاجِر من مكَّة ستَّ رِقابٍ، بلالٌ رضِي الله عنه سابعهم[9].
وكذا كان من كَيْدِهم أمرُ الصَّحيفة الظالمة والشِّعب؛ قال ابن سيِّد الناس: (ثم إنَّ كفَّار قريش أجمَعُوا أمرَهم واتَّفَقَ رأيُهم على قتْل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: قد أفسَدَ أبناءَنا ونساءَنا، فقالوا لقومه: خُذُوا مِنَّا ديَةً مُضاعَفة ويقتُلُه رجلٌ من غير قُرَيش وتُرِيحوننا وتُرِيحون أنفُسَكم، فأبى قومُه بنو هاشم من ذلك، فظاهرَهُم بنو المطَّلب بن عبد مَناف، فأجمَعَ المشركون من قريش على مُنابَذتهم وإخراجهم من مكة إلى الشِّعب، فلمَّا دخَلُوا إلى الشِّعب أمَر رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن كان بمكَّة من المؤمنين أنْ يَخرُجوا إلى أرض الحبشة، وكان متجرًا لقريش، فكان يُثنِي على النجاشي بأنَّه لا يُظلَم عنده أحدٌ، فانطَلَق إليها عامَّة مَن آمَن بالله ورسوله، ودخَل بنو هاشم وبنو المطَّلِب شِعبَهم، مؤمنهم وكافرهم؛ فالمؤمن دينًا والكافر حميَّة، فلمَّا عرفَتْ قريش أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد منَعَه قومُه أجمَعُوا على ألاَّ يُبايِعوهم، ولا يَدخُلوا إليهم شيئًا من الرِّفق، وقطَعُوا عنهم الأسواق، ولم يَترُكوا طَعامًا ولا إدامًا ولا بَيْعًا إلاَّ بادَرُوا إليه واشتروه دُونَهم، ولا يُناكِحوهم ولا يقبَلُوا منهم صُلحًا أبَدًا، ولا تأخُذُهم بهم رأفةٌ حتى يُسلِموا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم للقَتْل، وكتَبُوا بذلك صحيفةً وعلَّقُوها في الكعبة، وتمادَوْا على العمل بما فيها من ذلك ثَلاث سِنين، فاشتدَّ البَلاءُ على بني هاشم في شِعبِهم وعلى كلِّ مَن معهم، فلمَّا كان رأس ثلاث سِنين تَلاوَم قومٌ من قُصيٍّ ممَّن ولدَتْهم بنو هاشم ومن سواهم، فأجمَعُوا أمرَهم على نقْض ما تعاهَدُوا عليه من الغدر والبَراءة، وبعَث الله على صَحِيفتهم الأرَضَة فأكَلتْ ولحسَتْ ما في الصَّحيفة من مِيثاق وعَهد)[10].
5- الهجرة وضَرُورة إقامة الدَّولة الإسلاميَّة:
رأي النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّه مكلَّفٌ برسالةٍ عالميَّة وليست محليَّة أو قوميَّة، وأنَّ هذه العالميَّة لرسالته لم تكن طُموحًا خاصًّا، يتطلَّع النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى تَحقِيقه وهو يعلَمُ أنَّ السبيل إلى ذلك شاقٌّ وعسير قِياسًا بما لقيه من مُحاوَلات نشر الدَّعوة داخل المحيط الضيِّق الذي لم يتعدَّ قبيلتَه أو القبائل المُجاوِرة في مكَّة وما يُحِيط بها، بيد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم استَشعَر مسؤوليَّة قولِ الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28].
من أجْل هذا أحسَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ تحقيق عالميَّة رسالته لا تَأتِي إلاَّ من خِلال نِظامٍ سياسيٍّ وكيانٍ اجتماعيٍّ يَحمِيها نظامٌ عسكري في مَوطِنٍ أمين، أو بالأَحرَى من خِلال دولةٍ تَكفُل لهذه الدَّعوة حَقَّ الانتشار والذُّيوع، وتَحمِي أتباعها وتُؤمِّنهم؛ ومن ثَمَّ تطلَّعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى تَحقِيق ذلك؛ إذ سرعان ما نَجِدُه صلى الله عليه وسلم يتحرَّك صَوْبَ الخروج إلى مكانٍ جديد يَصلُح لصياغة الطاقات الإسلاميَّة في إطار دَولةٍ تأخُذ على عاتِقِها الاستمرارَ في المهمَّة بِخُطًى أوسَع، وإمكانات أعظم بكثيرٍ من إمكانات أفراد تَنْتابُهم شُرور الوثنيَّة من الداخِل، وتضغَطُ عليهم قِيَمُ الوثنية من الخارج، ويَصرِفُ طاقتهم البنَّاءة اضطِهاد قُرَيش بدَلًا من أنْ تَمضِي هذه الطاقات في طَرِيقِها المرسوم؛ لذلك استمرَّ على بذْل الجهد البشري الكامل في البَحث والتَّخطِيط للهِجرة التي ستعقبُ دَولةً، وللدَّولة التي ستعقب أنصارًا...[11][12].
6- الهجرة من سُنَنِ الأنبياء:
لَمَّا كانت الهجرة أمرًا مهمًّا لإعلان شأن الدِّين، وللحصول على الحريَّة الكاملة لعِبادة الله وطاعَتِه، ولأنها لا تحدُث إلاَّ عن حربٍ ومُضايقَةٍ من أعداء الله لأوليائه- لذلك أطلَعَ الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم على بعضِ هِجرات الأنبياء من قبلُ؛ لأنَّ الهجرة مَطلَبٌ دعوي تقتَضِيه طَبِيعَة النبوَّة والرِّسالة ونشر الدَّعوة، وربما هذا الأمر هو الذي حمَل بعضَ الأنبِياء على الهجرة، فلم يكن محمدٌ صلى الله عليه وسلم أوَّل مَن هاجَر من وطَنِه ومَسقَط رأسه مكَّة من أجل الدَّعوة الإسلاميَّة، وإيجادًا لبيئةٍ خصبةٍ تتقبَّلها وتستَجِيب لها، بل تَذُود عَنها، فإنَّ بعضَ إخوانه الأنبياء- عليهم جميعًا أفضلُ الصَّلوات وأزكى التَّسليمات- قد هاجَرُوا قبلَه من أوطانهم لينشُرَ كُلٌّ منهم دَعوتَه[13].
فهذا نوحٌ عليه السلام قال الله تعالى عنه: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود: 40].
وباستِواء السَّفِينة على الجُودِيِّ[14] انتَهَتْ مَرحَلةٌ من مَراحِل مُهمَّة من الصِّراع بين الحق والباطل، وجاءَ الأمر الرَّباني: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود: 48].
وإبراهيم عليه السلام كانت دعوته أصلًا بأرض العِراق، إلاَّ أنَّه كانت له هِجراتٌ إلى الشام ومصر وأرض الحِجاز؛ قال تعالى حاكيًا عن هِجرَة إبراهيم إلى الشام بعد نَجاته من مُحاوَلة تحريقه بالنار: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 68- 71]، وهذه الأرض هي الأرض المقدَّسة بفلسطين.
وهذا كَلِيمُ الرحمن موسى عليه السلام كانت له كذلك هِجراتٌ قبل بعثته وبعدَها، فقد هاجر قبل بعثته عندما قتل القبطي خَطئًا؛ فخرج منها خائفًا يترقَّب، وهاجر بعد بعثته بعد أنْ كذَّبَه فرعون وقومه؛ فأمَرَه ربُّه سبحانه وتعالى بالهجرة قائلًا له: {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لاَ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه: 77- 79].
هكذا رأينا أنَّ هذه الأسباب كلَّها مجتمعةً كانت دافِعًا قويًّا وأكيدًا لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكَّة إلى المدينة المنوَّرة، فخَرَج منها صلى الله عليه وسلم مُهاجِرًا، وكان قيامُ دولة الإسلام.
أهم نتائج الهجرة النبويَّة إلى المدينة:
1- أوَّل وأهمُّ نتيجةٍ من نَتائِج الهجرة النبويَّة إلى المدينة هي: إقامة الدولة الإسلاميَّة والمجتمع الإسلامي، الدولة التي تُظِلُّ تحتَ لوائها كُلَّ مَن آمَن بالله تعالى ويكون فيها فَرْدًا صالحًا يَعبُدُ ربَّه دون خَوْفٍ من عَدُوٍّ يتربَّص به، أو كافر يَكمُن له، يقول المباركفوري عن هذا المجتمع الجديد: (قد آنَ لهم أنْ يكونوا مُجتَمعًا جَديدًا، مجتمعًا إسلاميًّا، يختَلِف في جميع مَراحِل الحياة عن المجتمع الجاهلي، ويَمتاز عن أيِّ مجتمعٍ يُوجَد في العالم الإنساني، ويكون ممثِّلًا للدَّعوة الإسلاميَّة التي عانَى لها المسلمون ألوانًا من النَّكال والعَذاب طِيلَة عشر سَنوات)[15].
2- ومن النتائج المهمَّة نَجاةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من أذى كُفَّار قريش الذي زادَ وطَغَى حتى وصَل إلى مُحاوَلة اغتِيالِه وقَتلِه صلَّى الله عليه وسلَّم.
3- تَرسِيخ مَبدَأ الأُخُوَّة بين المُهاجِرين والأنصار، وقد ترسَّخ هذا المبدأ في نُفُوسهم حتى إنَّ أحدَهم لَيَطلُبُ من أخيه أنْ يُقاسِمَه في ماله وأزواجِه!
4- القَضاء التامُّ على الإِحَن والأضْغان الذي كان في الصُّدور من قِبَلِ القَبائِل لبعضها، وتَوحِيدها تحت رايةٍ واحِدةٍ هي راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.
تلك كانت أهم أسباب ودَواعِي ونَتائج وآثار الهجرة النبويَّة المُبارَكة- على صاحِبِها أفضَلُ الصَّلاة والسَّلام.
وصَلَّى الله على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصَحبِه وسَلَّم تسليمًا كثيرًا، والحمدُ لله رَبِّ العالمين.
===================
[1] مسند أحمد (43/ 53)، صحيح البخاري (1/ 7).
[2] وسُمِّيت بَيْعَة النساء لعدم المعاهدة على القِتال، حيث لم يكن قد شُرِعَ قبلُ.
[3] الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبدالبر الأندلسي (1/ 67- 70)، بتصرُّف يسير.
[4] صحيح البخاري (6/ 111).
[5] صحيح البخاري (5/ 46).
[6] صحيح البخاري (1/ 57)، صحيح مسلم (برقم 1794).
[7] مصنَّف عبدالرزاق (5/ 384)، السيرة النبوية لابن هشام (1/ 481)، وغيرهما من كتب الحديث والسِّيَر.
[8] السيرة النبوية لابن هشام (1/ 320)، المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية لابن حجرٍ العسقلاني (16/ 295).
[9] فضائل الصحابة للإمام أحمد بن حَنبَل (1/ 119).
[10] عيون الأثر لابن سيِّد الناس اليعمري (1/ 147- 148).
[11] خطوات في الهجرة والحركة د. عماد الدِّين خليل (ص19- 20).
[12] قضايا ومواقف من السِّيرة النبوية د. هاشم عبدالراضي (ص125).
[13] أحاديث الهجرة د. سليمان السعود (ص89).
[14] اسم جبلٍ بالموصل أو بالمدينة، وقيل: هو اسمٌ لكلِّ جبلٍ.
[15] الرحيق المختوم لصفي الرحمن المباركفوري (1/ 161).
الكاتب: أحمد مصطفى عبدالحليم.
المصدر: موقع الألوكة.